المباني التراثية.. سطور الزمن وحكاية المكان

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

مريم سلطان المزروعي 

المباني التراثية ليست حجارة صامتة، ولا أبنية متجمدة في ركام التاريخ، بل هي ذاكرة نابضة تروي للأجيال حكاية إنسان عاش، وبنى، ورسم على وجه الأرض بصمته الخالدة. هي رسائل كتبتها أنامل الأجداد، وزينتها ريشة الفنانين، لتغدو لوحات بديعة متناسقة، أبطالها رجال ونساء تحدوا قسوة الطبيعة، فشيّدوا ما يخلّد أسماءهم في سفر الزمن.
في الإمارات، اتخذت العمارة التقليدية طابعها الخاص، فهي ابنة الصحراء ورفيقة البحر، تنبض بعراقة الأرض وروح المكان. كان الأهالي يشيدون بيوت العرشان من سعف النخيل في البراحات الرحبة، حيث المياه العذبة والنخيل الباسق، كما في «براحة دبي» التي ضمت آلاف العرشان، فغدت لوحة حيّة من البساطة والجمال. وعلى الضفاف الأخرى، اتجهت القوافل نحو رؤوس الجبال في رأس الخيمة ودبا وكلباء، حيث المصايف الموشّاة بالنسيم العليل، فيما ظل البدو يحملون بيوت الشعر معهم، تنسجها أنامل النساء بخيوط الصوف، لتكون مأوى متنقلاً يعانق الصحراء ونجومها.
البرّاحة شَرْغه وراحه والعرب فيها مْبِشّيْنا
سُوْقها ثَامر بتْفّاحه والرّطب تلفِي الْهِيْنا
أما التجار، فقد كان لهم شأن آخر، شيّدوا بيوتهم من الجص والأخشاب الصلبة المستقدمة من إفريقيا، لاسيما خشب الجندل، فكانت بيوتهم أكثر صموداً، تعكس مكانتهم وحيوية الأسواق التي التفّت حولها.
لم تكن تلك البيوت جدراناً فقط، بل كانت لغة من لغات البقاء، يقرأ فيها الإنسان الإماراتي أسرار الطبيعة ويترجمها إلى إبداع معماري خالد. وحين تطأ القدم حصون العين، كقلاع الجاهلي والمويجعي والهيلي، يدرك المرء أن تلك الحجارة لم تكن مجرد معاقل للحماية، بل شواهد على وعي الإنسان بضرورة صون أرضه وواحات حياته.
وفي أبوظبي، يقف قصر الحصن شامخاً منذ أكثر من قرنين ونصف القرن، يروي للأجيال قصة أسرة آل نهيان ومسيرة عاصمة صارت نبراساً للحضارة. وفي دبي، يطل حصن الفهيدي بجلاله، شاهداً على بدايات مدينة تجسدت فيها عظمة الإرادة. وإذا عبرنا إلى الفجيرة، نجد مسجد البدية، بقبابه غير المتساوية، يتهجد في صمت منذ مئات السنين، مؤكداً أن الروح أقوى من الأدوات، وأن الإيمان يبني ما تعجز عنه اليد الفقيرة. وفي عمق دبي، يبوح موقع ساروق الحديد بأسراره، وقد تحول إلى رمز عالمي بعد أن أهدى للعالم قطعة ذهبية نادرة أصبحت شعار «إكسبو 2020».
إن هذه المناطق ليست آثاراً جامدة، بل روايات متدفقة تجسد صراعات الإنسان مع الطبيعة، وانتصاراته الصغيرة التي تراكمت لتصنع حضارة. وحين نحافظ على هذه المباني، فإننا لا نصون حجراً ولا خشباً، بل نحفظ هوية وذاكرة، ونمنح الأجيال القادمة فرصة لقراءة تاريخهم كما خطه الأجداد، بعيداً عن التشويه والنسيان.
إن التراث المعماري الإماراتي، بما يحمله من حصون ومساجد وأسواق وبيوت، هو سيمفونية الزمن، ونشيد الأرض، ودليل على أن الأمم العظيمة تبقى عظيمة بقدر ما تصون جذورها وتحمل ماضيها على أكتاف حاضرها نحو المستقبل.

باحثة في التراث

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق