الحرب والسلام في العصر الرقمي

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 يشهد العالم المعاصر تحولات عميقة بفعل الثورة الرقمية، حيث تمتد آثار التكنولوجيا إلى الاقتصاد والسياسة والثقافة. في قلب هذه التحولات تتشكل ملامح جديدة للعنف والسلام، وتبرز أسئلة جوهرية عن مستقبل العلاقات الدولية في ظل ترابط القوة الرقمية بالواقع الجيوسياسي.
يشكّل كتاب «الحرب والسلام في عصر الرأسمالية الرقمية» للمفكر كريستيان فوكش، الصادر عام 2025 عن جامعة وستمنستر في لندن، محاولة جادة لفهم ملامح العنف والصراع والسلام في عالم باتت التقنية والاقتصاد الرقمي يوجهان مساره. فالتحولات الكبرى التي أحدثتها الرقمنة والعولمة امتدت إلى السياسة الدولية، لتصبح التكنولوجيا جزءاً من بنية الحروب الحديثة وأداة لإنتاج أنماط جديدة من العنف. ومن هنا يأتي الكتاب ليطرح رؤية شاملة تفسر موقع العنف في النظام العالمي، وتبحث في سبل بناء سلام مستدام ينسجم مع المتغيرات الراهنة.
يقول المؤلف في مقدمته للكتاب: «أصبحت السياسة العالمية شديدة الاستقطاب. نعيش اليوم في زمن باتت فيه إمكانية نشوب حرب عالمية جديدة أكثر ترجيحاً. وقد عبّر «ميثاق المستقبل» للأمم المتحدة لعام 2024 عن قلقه من (المخاطر المتزايدة لاندلاع حرب نووية قد تشكل تهديداً وجودياً للبشرية). فهل ستنحدر الإنسانية نحو البربرية وحرب عالمية، أم سندرك أخطار مشكلاتنا العالمية، وأسلحة الدمار الشامل، والتهديدات الناجمة عن احتمال نشوب حرب عالمية جديدة وكارثة مناخية، لنتمكن من تفادي الفناء وبناء سلام عالمي دائم؟».


السلام والعنف في العصر الرقمي


يتناول هذا الكتاب العنف والحرب العالمية والسلام العالمي في ظل الرأسمالية الرقمية العالمية. ويطرح أسئلة جوهرية: كيف يتجلى العنف والحرب في سياق الرأسمالية الرقمية العالمية؟ وكيف تترجم الرأسمالية الرقمية والتقنيات الرقمية نفسها في ممارسات العنف والحرب؟ وما هي آفاق السلام العالمي اليوم؟
يرى المؤلف أنه لكي نمنع اندلاع حرب عالمية ونعزز فرص السلام العالمي، نحتاج إلى فهم أفضل للحرب والعنف وسياقاتهما وأسبابهما. علينا أن نسأل: ما هي الحرب؟ ما هو العنف؟ كيف تبدو الحرب والسلام اليوم، وكيف تغيّرا في القرن الحادي والعشرين؟ أسهمت تحولات الرأسمالية في تشكيل العنف والحروب. وهذا الكتاب يتصدى لهذه المهام، ويقدّم إجابات ممكنة عن هذه الأسئلة المطروحة.
يمنح هذا الكتاب اهتماماً خاصاً لتحليل العنف والحرب في سياق الرأسمالية الرقمية العالمية، ساعياً إلى إظهار كيف أن الرأسمالية الرقمية والرأسمالية العالمية تمثلان جانبين رئيسيين يحددان ويؤطران ويشكلان ملامح العنف والحروب في القرن الحادي والعشرين.
يرى المؤلف أن مجتمعات القرن الحادي والعشرين يمكن وصفها بأنها مجتمعات الرأسمالية الرقمية، حيث تتداخل البنية الاقتصادية التقليدية للرأسمالية مع التحولات التي أطلقتها التكنولوجيا الرقمية منذ ظهور الحواسيب الأولى في الأربعينات، وصولاً إلى الإنترنت والذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة. 
وفي هذا السياق لا تنشأ التكنولوجيا من فراغ، بل هي ثمرة لتفاعل المجتمع مع أدواته، وهو ما يجعلها عاملاً وسيطاً في تشكيل الممارسات الإنسانية وتوجيهها.
ويُبرز الكتاب مثال الحرب في أوكرانيا باعتباره نموذجاً حياً لهذا التداخل بين التقنية والاقتصاد والحرب؛ فروسيا وأوكرانيا اعتمدتا على الطائرات المسيّرة لضرب أهداف بعيدة المدى، وهي تقنيات طُورت أصلاً في إطار اقتصادي ربحي ثم تحولت إلى أدوات لتغيير ممارسات الحرب. ويشير المؤلف إلى أن الدمار والقتل أصبحا يُنفَّذان بشكل متزايد عبر آلات مبرمجة، بينما يظل دور البشر مقتصراً على التصميم والتصنيع والبرمجة، في دلالة على الصلة الجوهرية بين الاقتصاد الرقمي المعاصر وأشكال العنف الجديدة.
وفي تحليله الأوسع، يوضح الكتاب أن الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي، بل هي تكوين اجتماعي شامل يقوم على منطق التراكم غير المتكافئ، بما ينتج عنه تفاوتات متزايدة تهدد بالانفجار. هذه التفاوتات، كما يبيّن المؤلف، دفعت في العقود الأخيرة إلى صعود السلطوية والتيارات اليمينية المتطرفة، ما يثير المخاوف من ولادة فاشيات جديدة وحروب عالمية محتملة. ومن هنا، يقدّم الكتاب قراءة عميقة للعلاقة بين الرأسمالية الرقمية والعنف، بوصفها سياقاً محدداً لمستقبل الصراع والسلام في عصرنا.


السلام العالمي والاشتراكية الرقمية 


يبني فوكش عمله على اثني عشر فصلاً تتدرج من المفاهيم النظرية إلى الأمثلة التطبيقية. يبدأ بتفكيك مفهوم العنف ذاته، متسائلاً عن جذوره وتجلياته وأبعاده البنيوية. ومن هنا يتجه إلى الحديث عن العنف الرقمي، وهو الوجه الجديد الذي يظهر عبر البث المباشر للجرائم، واستغلال العمالة في الصناعات التكنولوجية، وانتشار التهديدات والتحريض في الفضاءات الرقمية. هذا التحول يجعل من التقنية وسيطاً لنقل العنف وإعادة إنتاجه، بل وتوسيعه ليصبح عابراً للحدود.
بعد تأسيس هذا الإطار، ينتقل المؤلف إلى الحرب الرقمية، حيث تبرز الطائرات المسيّرة، والروبوتات القتالية، والبرمجيات الذكية كجزء من المشهد العسكري المعاصر، حيث صارت التقنية مكوّناً مركزياً في ساحة القتال، من الاستطلاع إلى الهجوم المباشر، لتكشف عن عصر جديد من الحروب غير التقليدية.
يتوسع الكتاب في تناول الرأسمالية الرقمية، موضحاً كيف أفرزت أنماطاً جديدة من السيطرة والهيمنة، وزادت من عمق الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الشعوب. ثم يتدرج إلى الحديث عن الرأسمالية العالمية بأبعادها المتشابكة: الاقتصادية، السياسية، والعسكرية. هنا يوضح فوكش كيف تحوّلت السيطرة على البيانات والتكنولوجيا إلى ركيزة أساسية من ركائز النفوذ الجيوسياسي، لتصبح الحروب الحديثة نتاج تفاعل وثيق بين الاقتصاد الرقمي والاستراتيجيات الدولية.
في هذا السياق، يطرح المؤلف أسئلة جوهرية حول معنى السلام العالمي في عصر تتزايد فيه التحديات الرقمية. ويولي اهتماماً خاصاً بدور الأمم المتحدة باعتبارها الإطار الأوسع لتنظيم السلم العالمي، لكنه يشير إلى ما تواجهه من صعوبات بنيوية في أداء هذا الدور، مؤكداً أن إصلاحها ضرورة ملحّة إذا أرادت أن تظل أداة فعّالة في إدارة النزاعات وتنظيم التكنولوجيا. فالسلام، في تصوره، هو نظام مؤسسي يقوم على العدالة، وعلى قدرة المجتمع الدولي على تنظيم التكنولوجيا، وتوزيع الثروة، وحماية الحقوق.
يقدّم فوكش رؤيته لمستقبل بديل عبر مفهوم الاشتراكية الرقمية الديمقراطية، حيث تُدار التقنية ضمن إطار يضمن المشاركة الشعبية ويعزز قيم العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية. هذا النموذج، في نظره، هو ضرورة لبناء سلام مستدام في عالم يتجه نحو المزيد من الاستقطاب.
ويختتم الكتاب بفصل شامل يضع القارئ أمام الخيارات الكبرى: الانزلاق نحو مزيد من العنف، أو التأسيس لسلام قائم على التوازن والعدالة الرقمية والاجتماعية. ويلحقه بمقطع «ما بعدي» يعرض فيه رؤيته للعالم في حقبة يسميها «ترامب 2.0»، حيث يشكل صعود النزعات الشعبوية والسلطوية تهديداً جديداً يضاعف من مخاطر الانقسام والحروب.
من خلال هذا البناء المتدرج، يقدم فوكش عملاً يربط بين الفكر النقدي والوقائع الملموسة للحروب المعاصرة. فهو يعيد تعريف السلام بوصفه مشروعاً اقتصادياً وثقافياً وتقنياً، ويضع القارئ أمام صورة متكاملة لتشابك التكنولوجيا مع السياسة الدولية، داعياً إلى إعادة بناء المؤسسات العالمية بما يخدم مستقبل البشرية.

أخبار ذات صلة

0 تعليق