من جديد عاد صراع «المعادن النادرة» ليشعل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، عقب مجموعة قيود شاملة فرضتها بكين، رداً على محاولة واشنطن ممارسة ضغوط تجارية بدورها، من خلال التعريفات الجمركية الكبيرة والقيود التكنولوجية طويلة الأمد، لكن «اللعبة» هذه المرة قد تتجه إلى صدامات أكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي إذا لم يتراجع طرفاها، حيث يمارس أكبر اقتصادين عالميين اللعب بـ«الطريقة ذاتها».
وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، حاولت واشنطن التأكيد مراراً على امتلاكها سلطة واسعة لفرض قواعد عالمية تمنع الشركات في أي مكان في العالم من إرسال رقائق حاسوب متطورة أو الأدوات اللازمة لتصنيعها إلى الصين، بدعوى منعها من التفوق على أمريكا في سباق الذكاء الاصطناعي المتقدم، لكن بكين ردت بقوة.
ومارست الصين نفوذاً على سلاسل التوريد العالمية عندما كشفت عن قواعد جديدة تُقيّد تدفق المعادن الأساسية المُستخدمة في كل شيء تقريباً، من رقائق الحاسوب إلى السيارات والصواريخ، وهو ما أحدث صدمة غربية قبل سريان القواعد في وقت لاحق من هذا العام، حيث ستحتاج الشركات الغربية إلى الحصول على تراخيص من الصين لتداول منتجاتها حتى خارج الصين.
ويقول المحللون إن الصين، بفضل هيمنتها على إنتاج المعادن الأرضية النادرة وسيطرتها على صناعات استراتيجية أخرى، قد تمتلك قدرة أكبر من الولايات المتحدة، وأظهرت مجموعة القيود الشاملة التي أعلنتها بكين الأسبوع الماضي مدى قدرتها على التحكم في الصراع، وفقاً لنيويورك تايمز.
اللعبة الصينية على الطريقة الأمريكية
ويؤكد هنري فاريل، أستاذ العلوم السياسية في كلية جونز هوبكنز، أنه «على الولايات المتحدة أن تواجه خصماً قد يهدد قطاعات كبيرة من اقتصادها». وأضاف أن الولايات المتحدة والصين تمران الآن بمرحلة أكثر حساسية في الصراع التجاري. ومضى قائلاً: «لقد بدأت الصين بالفعل في اكتشاف كيفية الاستفادة من قواعد اللعبة الأمريكية، وبمعنى ما، تلعب هذه اللعبة بشكل أفضل مما تلعبه واشنطن حالياً».
معضلة الصين أسهل لكن المخاطرة حاضرة
وبينما أنفقت الصين مليارات الدولارات على صناعة الرقائق الإلكترونية، مما حفّز نموّ شركات تصنيع محلية، قد تحتاج الولايات المتحدة إلى سنوات لاستئناف إنتاج المعادن النادرة.
وقال مارتن تشورزيمبا، وهو زميل بارز في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي: «إذا كانت الصين قادرة على التحايل على قيود الرقائق، فإن الأمر يستغرق من الولايات المتحدة وقتاً أطول للتغلب على ضوابط المعادن النادرة، وسيمثل ذلك مشكلة كبيرة لأمريكا».
وتوضح يلينغ تان، الأستاذة بجامعة أكسفورد، أن هذه التطورات المتسارعة وضعت الصين في موقف تفاوضي أقوى مما كانت عليه خلال إدارة ترامب الأولى. لكنها أضافت أن الضوابط «قد تكون مكلفة للصين، وصورتها كشريك تجاري موثوق»، معتبرة أنها تواجه «توازناً دقيقاً للغاية يصعب تحقيقه».
سلاسل توريد غير صينية
وقال كريس ميلر، الأستاذ في جامعة تافتس ومؤلف كتاب «حرب الرقائق»، إن تداعيات نظام الترخيص الجديد في الصين قد تكون «واسعة النطاق بشكل غير عادي»، ما يؤثر في جميع أشباه الموصلات المصنعة عالمياً تقريباً.
كما تشعر الشركات والحكومات في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والهند وكوريا الجنوبية وأماكن أخرى بالقلق إزاء المعلومات الواسعة النطاق التي تطلبها الحكومة الصينية في عملية الترخيص.
وتوقع ميلر وجود «مقاومة كبيرة» لتقديم هذه المعلومات، وقال إنها قد تُسرّع الجهود المبذولة لبناء سلاسل توريد غير صينية للمعادن النادرة. وتتشابه هذه الحجة مع ما يسوّقه منتقدو ضوابط التكنولوجيا الأمريكية، حيث يؤكدون أن ذلك يدفع العالم إلى اعتماد تكنولوجيا الرقائق غير الأمريكية.
ورقة ضغط قبل مفاوضات الزعيمين
وانتقد المسؤولون الصينيون منذ فترة طويلة تطبيق الولايات المتحدة للتدابير الاقتصادية خارج حدودها وأصروا على أن بكين تصرفت بشكل متسق في مواجهة التهديدات المتجددة من واشنطن.
وأكد جيانج تيانجياو، الأستاذ المشارك بجامعة فودان، أن المسؤولين الصينيين لاحظوا الجهود الأخيرة التي تبذلها الولايات المتحدة لإعادة تشغيل صناعتها للمعادن النادرة، وأنهم يريدون إظهار نفوذهم قبل اجتماع محتمل بين الرئيسين ترامب وشي.
وليس الواضح متى بدأ المسؤولون الصينيون بتطوير نظام ترخيص المعادن النادرة. لكن إجراءات ترامب، بما في ذلك فرض رسوم جديدة على السفن الصينية التي ترسو في الموانئ الأمريكية، أتاحت لبكين فرصة تجربة هذه الإجراءات.
وفي إبريل/نيسان، بعد أن فرض ترامب رسوماً جمركية إضافية بنسبة 34% على الصين، أطلقت بكين نظاماً أولياً لترخيص المعادن الأرضية النادرة لتصديرها إلى شركات صناعة السيارات والصناعات الدفاعية. حيث أصاب الذعر الشركات الأمريكية مع تناقص إمدادات المعادن. وأوقفت شركة فورد موتور وشركات سيارات أخرى بعض الإنتاج. وردّ ترامب برفع رسومه الجمركية إلى 145% كحد أدنى، ما أدى إلى توقف جزء كبير من التجارة بين البلدين.
وبدأت الصين تطبيق ما يشبه هذا النوع من القيود على سلاسل التوريد لأول مرة عام 2020، لكن واشنطن نفّذت بنداً غامضاً يُعرف باسم «قاعدة المنتج الأجنبي المباشر» لاستهداف شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة هواوي، التي اعتبرتها الحكومة الأمريكية تهديداً للأمن القومي. ولكن بدلاً من تقييد صادرات التكنولوجيا الأمريكية إلى هواوي فقط، صرّحت الولايات المتحدة بأنه لا يجوز لأي شركة في أي مكان في العالم شحن أي منتج إلى هواوي إذا كان يحتوي على أجزاء أمريكية أو صُنع باستخدام معدات أو برامج أمريكية.
وبدت الإدارة الأمريكية متفاجئة بالقيود الصينية، التي قد تُشل الصناعات الأمريكية. وهدد ترامب بإلغاء اجتماع مُخطط له مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، وإضافة رسوم جمركية بنسبة 100%. وبعد تراجع أسواق الأسهم، كتب ترامب على مواقع التواصل الاجتماعي: «لا تقلقوا بشأن الصين، كل شيء سيكون على ما يُرام!».
ثم وصف وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت والممثل التجاري الأمريكي جيميسون جرير نظام الترخيص الصيني بأنه وسيلة للاستيلاء على السلطة العالمية، وقالا إن الولايات المتحدة مستعدة لفرض تعريفاتها الجمركية إذا مضت الصين قدماً. ورجح جرير أن «الإجراء الصيني لن يدخل حيز التنفيذ أبداً».
في اجتماعات عُقدت خلال ربيع وصيف هذا العام، أعادت الدولتان العمل بهدنة هشة، خفّضت بموجبها الولايات المتحدة تعريفاتها الجمركية، وسمحت الصين بتدفق صادرات المعادن بسهولة أكبر. لكن واشنطن استمرت في فرض ضوابط على التكنولوجيا، ما دفع الصين إلى اتخاذ إجراءات مضادة قاسية.
ويأتي نظام تراخيص المعادن الأكثر توسعاً في الصين في أعقاب الخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة في 29 سبتمبر/أيلول لتوسيع القيود التجارية على الشركات التابعة لأي شركة مدرجة على ما يسمى بـ«قائمة الكيانات»، والتي تقيد نوع التكنولوجيا الأمريكية التي يمكنها شراؤها.
ويقول المحللون إن المسؤولين الصينيين اعتبروا هذه الخطوة بمثابة تعطيل للتهدئة المؤقتة، بعد أن تحدث ترامب مع شي عبر الهاتف قبل أقل من أسبوعين وقالا إنهما اتفقا على صفقة أولية بشأن منصة «تيك توك» في الولايات المتحدة مع الشركة المالكة الصينية.
لكن القيود المفروضة على المعادن تتميز بالسلطة التي تسمح لبكين بالمطالبة بها على الإمدادات العالمية من الرقائق الصغيرة الخاصة بجميع الأجهزة الإلكترونية تقريبا. وقال شياومينج لو، مدير مجموعة أوراسيا، للأبحاث في واشنطن، «إن ما يخيف بقية العالم هو المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الصين في تطبيق الإجراءات وتوسيع القيود الجديدة».
0 تعليق