منذ نشأته، حمل الإنترنت وعوداً كبرى بتقريب البشر، وتوسيع دوائر المعرفة، وخلق مساحات جديدة للتعليم والتجارة والبحث العلمي. ومع كل صراع أو أزمة سياسية، بدا أن هذا الفضاء الرقمي قادر على توفير منفذ للتواصل بين الشعوب، بعيداً عن الحسابات الضيقة للسياسة والحدود.
مع دخول الذكاء الاصطناعي على المشهد وتزايد نفوذ الدول والشركات، يصبح السؤال اليوم أكثر إلحاحاً: كيف يمكن الحفاظ على انفتاح الإنترنت وضمان استمراره كأداة عالمية للتعاون الإنساني؟
في كتابه الجديد «كيف ننقذ الإنترنت: التهديد للاتصال العالمي في عصر الذكاء الاصطناعي والصراعات السياسية»، الصادر في 2025، يقدّم نِك كليغ، نائب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق والرئيس السابق للشؤون العالمية في شركة «ميتا»، تحليلاً متدرجاً للأزمة التي تمر بها الشبكة العنكبوتية، ويرسم خريطة طريق لإصلاحها عبر أربعة أقسام رئيسية تضم أحد عشر فصلاً مترابطاً.
يبدأ الكتاب بـالجزء الأول «قوة المنصات»، حيث يناقش المؤلف في فصل مشكلات وسائل التواصل الاجتماعي الإشكالات التي رافقت صعود هذه المنصات، ثم يعرّج في الارتداد ضد التكنولوجيا على موجة الاعتراضات التي تلت توسع شركات وادي السيليكون. يوضح كليغ في فصل «الإنترنت المفتوح: كيف كبرت الشركات الكبرى» مسألة استفادة هذه الشركات من الانفتاح الرقمي لتصبح كيانات عابرة للقارات، قبل أن ينتقل إلى عقدة النقاش المتعلقة بحرية التعبير، التي تعد من أكثر الملفات حساسية في المجال الرقمي.
في الجزء الثاني «بروز قوة جديدة»، يفتح الكتاب باب النقاش حول الذكاء الاصطناعي التوليدي. ففي فصل «ما مدى أهمية الذكاء الاصطناعي التوليدي؟»، يعرض المؤلف فرص هذه التقنية في تطوير مجالات العلم والتعليم والاقتصاد، بينما يخصص فصل مفارقة قوة الذكاء الاصطناعي لتسليط الضوء على التعقيدات المرتبطة بقوة هذه التقنية، وما تحمله من إمكانات هائلة وتحديات كبيرة في الوقت نفسه.
أما الجزء الثالث «عودة الدول إلى المشهد»، فيتناول مسألة السيادة الرقمية من خلال فصل السيادة الرقمية، حيث يوضح كيف تعمل الحكومات على ضبط تدفقات البيانات وتحديد قواعد عمل المنصات داخل حدودها. ثم يتناول في نهاية العصر الذهبي للإنترنت فكرة أن مرحلة الانفتاح اللامحدود بدأت بالانحسار، وصولاً إلى فصل القوى العظمى فائقة القوة الذي يقدّم قراءة في تنافس الدول الكبرى على صياغة النظام الرقمي العالمي وفق مصالحها الاستراتيجية.
يُختتم الكتاب بالجزء الرابع «توازن جديد للقوة»، حيث يطرح كليغ في فصل «دعوا الشمس تدخل» ضرورة إدخال قدر أكبر من الشفافية والمساءلة في عمل الشركات الرقمية، وفي فصل «اتفاق لإنقاذ الإنترنت» يقترح إطاراً تعاونياً دولياً لإنقاذ الشبكة من التفتت، مؤكداً أن الحفاظ على الإنترنت كفضاء عالمي مفتوح يتطلب جهداً مشتركاً بين الدول والمنصات الكبرى.
يتنقل هذا العمل بين التشخيص الدقيق والتحليل السياسي والاقتراح الإصلاحي، مستنداً إلى خبرة شخصية للمؤلف داخل واحدة من كبرى شركات التكنولوجيا في العالم. ويضع الكتاب القارئ أمام صورة متكاملة لمصير الإنترنت في زمن الذكاء الاصطناعي والتنافس الجيوسياسي، ويقدّم رؤية واضحة تقول إن الحفاظ على الشبكة كأداة إنسانية جامعة شرط أساسي لبناء مستقبل أكثر تعاوناً ومعرفة.
يقدّم هذا الكتاب أيضاً بعداً تأملياً يتجاوز مجرد التحليل السياسي أو التقني، إذ يطرح تساؤلات جوهرية حول العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، وكيف يمكن للتطورات الرقمية أن تكون أداة لتحرير الطاقات البشرية بدلاً من تقييدها. ويرى كليغ أن مستقبل الإنترنت لن يتحدد فقط عبر التشريعات أو استراتيجيات الشركات العملاقة، بل أيضاً من خلال وعي الأفراد ومشاركتهم في الدفاع عن قيم الانفتاح والشفافية. ومن هنا يشكّل الكتاب دعوة فكرية وأخلاقية إلى إعادة النظر في استخدامنا اليومي للشبكة، بما يجعلها مساحة لصون الكرامة الإنسانية وتوسيع أفق التعاون العابر للحدود.
مستقبل الإنترنت بين الذكاء الاصطناعي والسياسة

مستقبل الإنترنت بين الذكاء الاصطناعي والسياسة
0 تعليق