نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
العذاب المثقف, اليوم الثلاثاء 9 يوليو 2024 10:45 مساءً
السكون الخاص الذي تصنعه لنفسك يذكرك ببراءة الأشياء من تهمة النضج، النضج الثقيل من عبء المعرفة الواسعة، تشعر في نفس اللحظة بالاستياء والإحباط وعذاب الليالي لعدم القدرة على تغيير الأوضاع المحيطة.
أنت أكثر حساسية للتناقضات في العالم والحياة، وعاجز عن فهم ما يجري حولك بشكل كامل، تفكر في القضايا الكبرى مثل الشأن الاجتماعي والسياسة العالمية، وقد تنخرط في نقاشات مع الأصدقاء والزملاء حولها، أنت مثقف بامتياز، وربما حاصل على درجة عليا، حياتك مليئة بالأحداث والكتب والحوارات والنقاشات، تبحث دوما عن إجابات وأدوات لفهم ما يحصل، لديك شكوك دفينة في طريقة التفكير الشخصي، وقلق بشأن المستقبل، وشعور لا يمكن الهروب منه ناتج عن فجوة بينك وبين الآخرين.
أفضل مكتسباتك هي واحد أو اثنين من الأصدقاء.. يفهمونك دون كلمات.
كل الأعراض السابقة تفيد أنك شخص يعاني من «متلازمة العذاب المثقف».. متلازمة الوعي الزائد لدرجة الشعور بالاستياء والقلق وعدم اليقين وربما الاكتئاب، تواجه تحديات في تقبل كم الثقافة والمعرفة الهائل لدرجة عدم اليقين في الموقف أو الرأي الشخصي، والسبب ارتفاع نسبة الوعي بالمتناقضات لدرجة العجز عن فهم العالم بشكل كامل.
عذاب الشخص المثقف يكمن في عدم القدرة على تقبل نقائص الحياة وتأمل اللحظات القصيرة للدهشة بكل تعقيداتها وأحلامها وخيبات أملها، الحياة التي تتوقع أن صاحب الثقافة هو حصان طروادة.. المنقذ والمتهم في نفس الوقت.. الذي يعول عليه للتغيير وصناعة التحولات الكبرى.
التساؤل الجوهري هنا: ما هي الأشياء التي تجعل الإنسان مثقفا؟ هل المثقف هو من يحمل شهادة علمية كبيرة؟ أو هو الشخص غير الأمي المتعالي على الواقع؟ هل هو الشخص الذي لا يشبه أحدا من عامة الناس.. ويظن أنه سينقذ البشرية من السقوط في براثن الجهل والتخلف؟ ما الذي سيجعل المثقف الحقيقي غير قابل للسقوط في مجزرة التدمير الذاتي.. خاصة عندما تكون الأوجاع والمآسي متراكمة؟ وكيف تكون الشعوب مثقفة وهي مازالت تمسح الزجاج بورق الكتب، وتقرأ من فنجان القهوة.. كما وصف نزار قباني؟!
هناك 162 تعريفا للثقافة ومدلولاتها بالنسبة لعلماء الاجتماع.
بالنسبة لي المثقف هو الشخص القادر على إنتاج الأفكار الجديدة والتعامل مع الأفكار القديمة التي أبدعها الآخرون، هو العارف والملتزم والواعي لدرجة الاضطلاع بدور اجتماعي فاعل، يرحب بالآراء المختلفة، ويتراجع عن رأيه إذا ثبت خطؤه، ولا يتردد في قول لا أعرف.
أما عن الشعور الطبيعي بعدم الانتماء.. شعور يجعل المثقف يسأل: هل لفكره قيمة.. هل لمقاله قيمة؟ هل لما يكتب وينتج ويحاضر جدوى؟ هل حتى لوجوده قيمة في واقع مملوء بالعبث والتفاهات.. وكيف يجرؤ على أن يخوض معركة الوعي دون شعور بالذنب؟ وهل من العجز التشبث بالمماثلين في ذنوب التثقيف والمثاقفة.. تجنبا للصراعات الدائرة.. وجلبا لبعض الأمان؟ عجز المثقف شبيه بعجز «الصقور» حين يصر الآخرون على إقناعها بأنها «حمائم».. فترضخ «للرفرفة» في المساحات البعيدة بين اليأس والسكوت.. وترضخ للتنازل عن كبريائها وقيمها الشخصية من أجل قبولها في سماء المحلقين.
إن التواجد في مجتمع «المعذبين بسبب ثقافتهم» ملهم جدا؛ لأن التشابه في الأهداف كبير، المثقف المنتج يحاول الخلود إبداعيا أكثر من تخليد المشاعر والمواقف الإنسانية، يحاول الانسجام عقليا وأخلاقيا مع مواقفه الفكرية ومع الآخرين، فيهرب من نفسه إلى أعماقه، يهرب إلى رفض ما يحدث في الوجود من حوله اجتماعيا وسياسيا، عبر ممارسة التأكيد، والرفض، والشك، والتأمل، فيشتغل بـ «القراءة والبحث والكتابة والمحاورة والنشر وصناعة المحتوى»، لكن برغم ذلك، قد يخسر قضيته أمام إمكانية التغيير والإصلاح وصنع الأثر بسبب السخف المنتشر، فيكبو ويستسلم مؤقتا؛ لكنه يستيقظ ليُلهم، ويعاود الابتكار ثقافيا من جديد.
أما عن كيف يتغلب المثقف على شعوره بالخيانة لنفسه، وإحساسه بأن حريته مشروخة، وأحلامه ورغباته صعبة المنال فعليه أن يثقف هذا النوع من العذاب.. «وإن عذبتك الليالي.. فثقف عذابك.. ثقف عذابك كي يصقلك».. كما يقول جاسم الصحيح.
لا بد من إيجاد التوازن بين استهلاك المعرفة والاهتمام بالنواحي الشخصية والعاطفية في الحياة.. في تنمية الصلابة العقلية والتركيز على الاستمتاع باللحظة الحاضرة لتخفيف الضغط النفسي. «الصقل» يكون ببناء شبكة دعم من مثقفين آخرين يواجهون نفس التحديات؛ فيتخفف المثقف من مشاعر الانكسار والتقبل الدائم لفكرة الضعف.
يقولون إن المثقف هو من «يستطيع التعبير عن الأمل بينما يختبئ اليأس في داخله».. وهو من «يقف في وجه التشويه والتجريف والتخريب اللفظي للحقائق» لذا فهو بحاجة إلى مواجهة شياطينه وعذاباته بشجاعة لينتج إبداعا من صلب المعاناة والحيرة والذات الصميمة دون إثارة للشفقة، المثقف مسكون بالمعرفة والفكر بشكل مزمن، وله دور حيوي في زيادة وعي الناس وإثراء الحياة الفكرية والثقافية، وفي توجيه النقد والنضج في المجتمعات؛ لذا كان الشعور بالعذاب رحلة طبيعية شاقة تحدث لكل مثقف حقيقي، ومن العار أن يتخلى المثقفون عن الشغف وعن الرحلة من أجل شبهات مؤقتة؛ فحضارة الأمم لا تقوم على الجهلاء.
smileofswords@
0 تعليق